Press ESC to close

الصفيح والسياج.. طقس لتزيين يمارسه أهل القابون الدمشقي

تعود طبيعة حي القابون الدمشقي العريق، لقرية صغيرة تقع شمال شرق العاصمة دمشق فهو أول ما يراه الواصل للشام، يمر بها سابقاً نهرا يزيد وتورا، وهما من فرعي نهر بردى.

مما جعلها منطقة زراعية واستجمام على مر العصور، ومصطبة السلطان سليم أكبر دليل على ذلك، لكنها لم تعد موجودة إثر التوسع العمراني الذي شهدته المدينة بعد مئات السنين.

كما يتخللها أربعة جسور، هم جسر القبّة الذي اشتق اسمه من المصطبة نفسها وجسر الحوارنة وجسر الدوّار وجسر تورا نسبة لفرع النهر، وتشتهر مزارع بأسمائها لوفرة أشجارها كالزيتون والتفاح والرمان، كمزرعة الشوك والطاحون والحمام. 

لم يبق مما ذكرت سابقاً سوا الأسماء والمعالم شبه انقرضت، جراء القصف والتهجير من الحرب التي اندلعت عام 2011م في سوريا.

مما أعاد لذاكرة “الأوابنة” (وهو الاسم الذي يطلق على سكان الحي) تراث أجدادهم ممن بقوا في المدينة ولم ينزحوا عنها، ليعودوا لزراعة الأراضي كلٌ حول منزله أو على سطح داره، و”يرشوا عَ الموت سكر” كما يقول المثل العامي بزراعة بعض أنواع النباتات ليجملوا أمام أعينهم ويمضوا أوقاتهم الطويلة بالنظر إليهم، أو يسدوا رمقهم ويؤمنوا احتياجهم اليومي من الخضراوات والمحاصيل المنزلية. 

كانت هذه الحركة مقتصرة على بعض العيل “الآبونية” التي لم تنزح، ثم تبعهم جُل من عاد للمدينة بعد رحلة تهجير دامت قرابة اثني عشرة سنة، حُلت بتسوية عام 2017م. 

يروي “عبد الرحمن” الرجل الستيني قصته فيقول: خرجت مع عائلتي من القابون عام ،2013 وتهجرت عشر سنين ورجعت سنة 2023 إلى بيت أهلي، لأن منزلي لم يبق منه سوى هيكله الحديدي، فبدأنا بزراعة بعض النباتات العطرية كالمليسة، لتجميل السطح والخراب المحيط بنا واستعنّا بهيكل براد مهمل، وزرعنا به نعنع وبقدونس لنسد حاجة المنزل منه، وكذلك فعل أخي وابن عمي ومن حولنا، استخدموا العلب البلاستيكية المهملة وعلب الزيوت والسمنة، مختلفة الحجم، فأصبحت البقعة بكاملها خضراء تسر الناظرين.

 يذكر أن من عاد من أهالي القابون يزرعون أشجار الرمان لتشكل سياج حول الدار وزهرة الختمية والورد الجوري بمختلف ألوانه، ليرى من يجول حول البيوت المعاد ترميمها بقعا خضراء تحارب مساحات الهدم، فأينما تجد نباتات فهناك أُناس عائدون إلى منازلهم رمموا ما بقي لهم وساهموا في جمال المنطقة. 

وآخرون ابتكروا طريقة لتسوير قطعة أرضهم بصفيح معاد تدويره من بقايا براميل مياه أو مازوت أو خزانات على اختلاف أحجامها وأوزانها مثقبة إثر الرصاص وهي من مخلفات الحرب، فتحت على طولها لتصبح سياج تمنع المتطفلين من الدخول حول المساحات الخضراء، أو لحماية المزروعات من الحيوانات الشاردة، أو زرعوا القصب ليشكل جدار حول البيوت.  

ومنهم من وزعوا القصب حول البيت المبني والأرض الزراعية وما بقي من أرض بور كعلامة لحدود الملكية، كي لا تتحول فيما بعد لمكب أنقاض أو مكان لرمي بقايا الطعام من البيوت المجاورة. 

حتى الأشخاص الذين يسكنون في شقق سكنية طابقية، يستعينون ببلوك وسياج من الصفيح والشِباك الخفيف ويصنعون مسكبة صغيرة، كالتي كان يصنعها الأجداد بالحقول ويسقونها ببرميل معاد تدويره، ويزرعون النعناع والريحان لطيب رائحته ويقضون أوقات السمر أمامه. 

في حين أن حقلة أم سمير أبو آذان التي تستحوذ على مساحة في ذاكرة “الأوابنة” عادت لتزدهر بعد الحرب، حيث يحدثنا أبو الفوز فيقول: “أنا فلاح أبّا عن جد، كان يسقي مزرعته كل أحد وثلاثاء من فرع نهر يزيد ويملأ المسبح المذكور، فكل آبوني سبح فيه أما الآن فهو يعيش على الذكريات”.

بعد أن عاد أبو الفوز، عمل جاهداّ لتسوير الحقل ببلوك مرصوف غير متماسك بالطين كسور لحماية الحقل من الغرباء لأن أشجار التين والرمان والحمضيات بدأت تخلف من جديد، بعد أن اعتنى بها وأصبح يزرع جرزة حولها. 

بالإضافة إلى أن أي منزل في حي القابون يكون له برندة أو تراس تراه يزخر بقصيص زراعي يحوي مجموعة من النباتات التي تحب الفيء أو الشمس أو كليهما، وكل ٌحسب موقع منزله.

وترى الأهالي يتبادلون قصف النباتات (طريقة تكاثر النباتات) كعادة عكفوا عليها كهدية معتبرة في الحي تعبيراً عن المحبة لبعضهم.  

وكلما كانت حديقة المنزل أو التراس أو البرندة مرتبة أكثر وغنية بالنباتات أكتر كلما كانت طريقة للفخر أكثر.

وختاماً بدأ التوسع العمراني مع ترافق التزايد السكاني والخدمي على حساب الميزة الزراعية، ولكن سيحتفظ كل منزل بنبتة واحدة على الأقل ببيته على أقل تقدير فالزراعة في عروقه، حيث صدرت العديد من المراسيم والقرارات التنظيمية، التي تشمل مدخل دمشق الشمالي منها القرار رقم 66 و106 و104 والذي يشمل تنظيم الأراضي المخالفات الموجودة بالمنطقة وغير المرخصة، لتضم مقاسم سكنية واستثمارية وخدمية.

أهداف التنمية المستدامة:

إن الأفكار والآراء الواردة في هذه المادة هي آراء صانعي المحتوى، ولا تتطابق بالضرورة مع التوجهات الرسمية لمنصة حلول محلية أو الجهات الداعمة لها.

ع 7

اترك تعليقاً

  • en